الفكر الإسلامي
محاوراتٌ
في الدِّين
الحلقة
(3)
بقلم : الإمام محمد قاسم النانوتوي المتوفى
1297هـ/1880م
رئيس الطائفة المؤسسة
لجامعة ديوبند
تعريب : الأستاذ محمد ساجد
القاسمي / أستاذ بالجامعة
كل ما في الكون من الأشياء يتمتع
بقوة الإدراك والشعور:
على هذا فوجب
أن يتمتع جميع أشياء الكون بقوة الإدراك والشعور في قليل أو كثير. إلاَّ أنَّ هذه
الأشياء تَتَفَاوَتُ في قوة الإدراك والشعور ، فالإنسان أكثر حظاً من الإدراك من
الحيوانات ، والحيوانات أكثر من النبات ، والنبات أكثر من الجمادات . أو افترضوا
الأمر علىالعكس . ولن تكون هذه الأشياء خاليةً من الإدراك والشعور ، وأما عدم
علمنا بذلك فلا يستلزم أن تكون هي عاريةً منه .
أسباب الطاعة :
على كل ،
فوجَبَ أن تكون أشياء الكون موصوفةً بالصفات الكمالية ، وأن تكونَ هي محتاجةً إلى
الله تعالىٰ في وجودها وصفاتها . فبناءً على ذلك وجب أن يكون الله تعالى
لجميع ما في الكون مطاعًا لازم الطاعة ، وأن تكون طاعته لازمةً على جميع ما في
الكون ؛ لأنَّ أسباب الطاعة ثلاثة ، أو هي تتلخص في اثنين .
وبيان ذلك إنما
يُطيع أحد غيره إما أملاً في النفع كطاعة العاملِ سيِّده أملاً في الراتب ، وإما
خوفًا من الضرر كطاعة أفراد الرعية وُلاتهم ، أوطاعة المظلومِ الظالمَ ، وإما
حبًّا لصاحبه كطاعة المحِبّ حبيبه .
فلما أمعنا
النظر في الأمل والخوف وجدنا مردّهما إلى النفع والضرر الذين يرجعان إلى مالكية
الصفات والكمالات ، أي إنَّ المالك الأصليّ مختار في عطاء الصفات والكمالات ومنعها
، وأما المستعير فلا اختيار له في المنع؛ ويَتَّضِحُ ذلك في مثال الشمس والأرض ،
فالشمس تُعْطِي الأرض نورًا وتسلبها إياه ، ولا يمكن للأرض أن تمسك النور ولا
تعطيها إياه ، وما ذلك إلا أن الشمس مالكة النور، والأرض مستعيرته .
خلاصةُ القول
أنَّه فيما يبدو أنَّ أسباب الطاعة ثلاثة ، وهي الأمل في النفع ، والخوف من الضرر،
والحُبُّ ، وإذا بحثنا وجدنا أنَّ الطاعة لها سببان : أحدهما المالكية ، وثانيهما
الحبُّ . وإذا زدنا الموضوعَ تنقيحًا وتمحيصًا تَوَصَّلْنا إلى أنَّ الطاعة لها
سبب واحد ، وهو الحبُّ . فقد يكون حُبُّ المطاع سببًا للطاعة ، وقد يكون حبُّ
المال والنفس سببًا لها . فطاعة العُشّاق سَبُبُها حبُّ المطاع ، وطاعة الموظّف
والرعيّة سببها حبُّ المال والنفس .
مهما
يكن من شيء ، فسبب الطاعة سواء كانَ واحدًا أو اثنين أو ثلاثةً ، فهي في الله
تعالىٰ أولاً وفي غيره ثانيًا ؛ لأنَّ المالكيَّة واختيار النفع والضرر ،
والمحبوبية تتوقف على الوجود فحيثما كانَ الوجودُ أصلاً كانت المالكية واختيار
النفع والضرر والجمال والمحبوبية أصلاً . وكانت المالكية واختيار النفع والضرر
والمحبوبية عطاءً من الله في غيره كالوجود ، وإذا كانت الأسباب المذكورة: المالكية
، واختيار النفع والضرر، والمحبوبية في المخلوقات أسبابًا للطاعة فلماذا لاتكون هي
في الله تعالىٰ أسبابًا للطاعة .
وإذا
كانت أسباب الطاعة وبواعثها كلُّها تُوْجَدُ في الله تعالىٰ ، بحيث هي
أصِيْلَةٌ في الله وعطاء في غيره كانت طاعتُه واجبةً على العالمين. والطاعة عبارةٌ
عن العمل بما يُرْضِيْ الله تعالى ، وإن كان العمل بما لايرضاه الله تعالى طاعةً
لم يكن بين الطاعة والمعصية من فرقٍ .
الحاجة إلى
الرسالة والنبوّة :
جملة
القول أنَّ الطاعة عبارة عن العمل بما يُرْضِيْ الله تعالى ، وأما معرفة الرضا من
عدمه فنحن – بني آدم – أولو أجسامٍ ظاهرةٍ لا يعرف أحد منا رضا غيره مالم
يُخْبِرْه أو يُشِر أو يكنِ ، وأما رضا الله تعالى وعدمه ، وهو لم تدركه الأبصار أبدًا
فكيف نعرفه مالم يخبرنا .
إلا
أنَّ ملوك الدنيا وسلاطينها – مع ما يتمتعون بالمالكية والمحبوبية والنخوة اسميًّا
– لايذهبون إلى المنازل والمحلاَّت ليقولوا لأتباعهم: >هذا ما نرضاه فاعملوا به ، وهذا ما لا نرضاه فاجتنبوه< وإنّما يأمرون خاصتهم ومُقَرَّبِيْهم بتبليغ أوامرهم وأحكامهم . فالله
تعالىٰ وهو الواحد الصمد الذي لايحتاج إلى أحد ، والناس يحتاجون إليه كيف
يليق به أن يذهب إلى كل من هبَّ ودَبَّ من النَّاس ليقول : >هذا ما أرضاه فاعملوا به ، وهذا ما لا أَرْضَاه فاجتنبوه، فهو كذلك
يُطْلِعُ النّاس على رضاه وعدمه عن طريق خاصته ومُقَرَّبيه ، وخاصة الله ومقرَّبوه
هم الذين نُسَمِّيْهم الرُّسُل والأنبياء .
الشرط
الأوّل للنبوّة التقربُ إلى اللّه :
ظاهر
أنَّ من كانَ مقربًا إلى الله تعالىٰ كان مطيعًا له ، ومن عصى الله لايكون
مقرّبًا إليه، كذلك من كان رجلاً جميل الصورة وكان إلى جمال صورته أعور ، فعَوَرُه
يجعل وجهَه قبيحًا . فجملة القول أنّ من كانت فيه خصلة قبيحة لايكون مقرَّبًا إلى
الله . على هذا فوجَبَ أن يكون الرسل والأنبياء مطيعين كلَّ الطاعة ولايعصون لله
أمرًا .
الأنبياء
معصومون :
على
هذا فنقول: إنَّ الأنبياء معصومون ، وذلك يعني أنَّ الأنبياء ليس فيهم مادَّة
العصيان؛ لأنهم إذا لم تكن فيهم صفة سيئة لاتصدر عنهم أفعال سيِّئة ؛ وذلك أنَّ
الأفعال الاختيارية تصدر عن الصفات ، فمن كان سخيًا يُعْطِيْ ويَهَبُ ، ومن كان
بخيلاً يجمع الأموال ، ومن كان شجاعًا يُبْلِي بلاءً في حومة الوغى ، ومن كان
جَبَانًا وَلّى دبره .
زَلّة لا
معصية :
نعم
ومن الممكن أن يخطئوا للسهو أو سوء الفهم – كما يخطئ كبار العقلاء أحيانًا ، ولا
يُنَزَّه عن الخطأ إلا الله العليم الخبير – في معرفة الرضا من سخطه ، فيحسبوا
الرضا سَخَطاً والسخط رضًا ، ويقارفوا ما يسخطه ، أو يعارضوا بسبب عظمة المطاع
وحُبّه ، وهذا ليسَ معصيةً ، وإنما المعصية عبارة عن تعَمُّدِ المعارضة، وإنما
السهو والنسيان زلَّة لامعصية ؛ فلذا يُقال عند الاعتذار: >نسيت أو أخطأت في الفهم< ولو كان السهو والنسيان معصيةً كان الاعتذار إقرارًا بالمعصية لا اعتذارًا
.
الشرطان
الأساسيان للنبوة :
كمال العقل
ونبل الأخلاق :
فلما
اتَّضَحَ أنَّ الأفعال تابعة للصفات ونابعة عنها ، بقي أن نراعِيَ أمرين : أحدهما
الأخلاق – الصفات – و ثانيهما كمال العقل وفرط الذكاء. أما الأخلاق فذلك أنَّ
الأفعال – التي وجب إتيانها أو الابتعاد عنها في عبادة الله وطاعته وامتثال أمره –
تتوقف على حسن الأخلاق وقبحها؛ مما ظَهَرَ أنَّ الحسن أو القبيح في الحقيقة هو
الصفات والأخلاق . وأما كمال العقل وفرط الذكاء فذلك أنَّ الحاجة تمس إلى فهم
تطبيق الصفات في مواضعها ، حتى لاتصير الأفعال قبيحةً لممارسة الصفات في غير
موضعها. فالسخاء صفة محمودة إذا مُوْرِسَتْ للمساكين والمحتاجين . وإذا مُوْرِسَتْ
للمغنّيات والراقصات ومُدْمِني الخمور والمدَخِّنِيْن فهي صفة قبيحة ؛ وذلك لأنها
مُوْرٍسَتْ في غير موضعها . جملة القول أنَّ الأفعال وإن كانت تابعةً للصفات ، إلا
أنَّ معرفة مواضعها لايمكن إلا برجاحة العقل وفرط الذكاء ؛ على هذا فوجَبَ أن يكون
الأنبياء راجحي العقول ومحمودي الأخلاق ، وإذا كانوا متصفين بالأخلاق الحسنة لزِمَ
أن يكونوا متصفين بالحب كذلك ؛ لأن حسن الخلق مبناه على الحب. وإذا كانوا أعرف
الناس بمواضع ممارسة الصفات – حسن الخلق والحب – وأرجحهم عقولاً كانوا أشدَّ
حُبًّا لله ، وإذا كانوا أشدّ حُبًّا لله كانوا أكثر خَلْقِ الله طاعةً له
وامتثالاً لأوامره ؛ فلا يخطِر ببالهم معصية ويكونون معصومين من الذنوب والمعاصي .
المعجزات
تتوقف على النبوّة ،والنبوّة لاتتوقف عليها:
ثم
أقول: إنَّ أساس النبوة على رجاحة العقل وحسن الخلق ، أما المعجزات فهي تتوقف على
النبوة ، والنبوة لاتتوقف عليها ، أي ليس الأمر أنَّ من ظهرت على يده المعجزات
أُعْطِيَ النبوة ، وإنما من أعطي النبوة أعطي المعجزات ، حتى يؤقِنَ قومه بنبوته ؛
لأنّ المعجزات للنبي بمثابة البراهين والوثائق . فلابُدَّ لأهل العقول أن يضعوا
نصب أعينهم أولاً رجاحة العقل وحسن الخلق عند مُدَّعِيْ النبوة .
فضل محمد ﷺ عقلاً وخُلُقًا :
أما
من ناحية العقل والخُلُق فقد وجدنا محمدًا ﷺ أرجح النّاس عقلاً وأوفرهم فهمًا وذكاءً . وأكبر دليلٍ على رجاحة عقله
وفرط ذكائه أنه وُلِدَ ونَشَأَ وتَرَعْرَعَ بل عاش طول حياته في بلدٍ بعيدٍ عن
الدين والعلم والمعرفة ، غارقٍ في مساوئ الجهل والأمّية .
فانظروا
! هذا الرجل الذي كان أميًا وعاشَ طول حياته في بلدٍ بعيدٍ عن العلم والمعرفة قد
أتى بدينٍ وشريعةٍ وكتابٍ وآياتٍ بيناتٍ أدهَشَ العالم، وخرَّج جهلاء العرب في علم
الإلهيات – التي هي أدق العلوم وأكثرها صعوبةً – وعلم العبادات ، وعلم الأخلاق ،
وعلم السياسات ، وعلم المعاملات ، وعلم المعاش والمعاد ، وجعلهم يبزُّون أرسطو
وأفلاطون ، وبنوا صرحًا شامخًا للمدنية العربية أُعْجِبَ به حكماء العالم . يدل
على علمهم وفضلهم ما تحويه المكتبة الإسلامية من الكتب والمؤلفات التي
لايُحْصِيْها العدُّ ، والتي لايوجد لها نظير لدى أي أمّة . فمن كان شأن تلاميذه
هذا فما ظنُّك بأستاذهم : محمد ﷺ .
أما
الخلق فلم يكن محمد ﷺ ملكاً ،
ولا أميرًا، ولاتاجرًا يملك أموالاً طائلة ، ولا إقطاعيًا ذا مزارع واسعة ، ولم
يرث غِنىً من أبيه ، ولا كسب ثراء بيده . وبالرغم من إفلاسه وبؤسه سخّر إخوانه من
العرب العتاة الطغاة ، وجعلهم بحيث يفدونه بأنفسهم ومهجهم ، ولم تكن هذه الحماسة
والفداء ليوم أو يومين وإنما عاشوا طول حياتهم متحمسين له ؛ ففارقوا أهلهم وذويهم
وهَاجروا أوطانهم وأموالهم ، وقاتلوا بني جلدتهم فَقَتَلُوهم أو قُتِلُوا بأيديهم
. وما هذا كله إلا بفضل خلقه ، لا بقوة السيف .
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول 1428هـ = أبريل
2007م ، العـدد : 3 ، السنـة : 31.